أفكار حول التطبيع، والتطبيع الرياضي مع العدو الصهيوني
علي الجلولي
أفكار حول التطبيع، والتطبيع الرياضي مع العدو الصهيوني
كثر اللغط وسال حبر كثير في المدة الأخيرة بمناسبة حصول الرياضية التونسية أنس جابر على تتويج رياضي عالمي بعد مقابلة مع متبارية صهيونية، وبعد تسويق وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي صورا تجمع رئيسة الجامعة الوطنية للتنس المدعوة سلمى المولهي القيزاني مع نظيرها الصهيوني. ففيما أدان قسم مهم من التونسيين هذه الأفعال التطبيعية، اتجه البعض الآخر إلى تبرير ما أتته أنس جابر باعتماد حجج منها أن الرياضة لا تُقيّم سياسيا وأنها محايدة وأن المتباري في مقابلات دولية لا يختار منافسه، وأن أنس جابر مفخرة للرياضة ولنساء تونس وأن نعتها بالتطبيع إهانة لمجهوداتها الجبارة ولكفاحها المرير من أجل اقتلاع مكانة لها ولبلادها تونس في مجال رياضي ظلّ حكرا على بلدان أخرى. وفي كلمة نستطيع أن نجزم أنه لم تلق مقابلة رياضية سابقة مثل هذا الجدل والخلاف، علما وأن الرياضية أنس جابر كانت رفضت سنة 2015 التباري أمام منافسة صهيونية في تصفيات رياضية في أذربيجان، وقد حاز ذاك الموقف إشادة وإعجاب وتقدير ليس الشعب التونسي فقط، بل كل الأحرار والشرفاء في العالم.
إن كتابتنا في الموضوع تعود أساسا إلى تنامي تيار أو نوع من التيار المدافع بخبث عن التطبيع اعتمادا على نوع من الحجج أو التبريرات التي قد تبدو للوهلة الأولى “موضوعية وعقلانية” لكنها بالنسبة إلينا كمن يمرر السم في الدسم، ومن ثمة التنبيه إلى المغالطات المقصودة منها والعفوية في ظرف حساس تمر به القضية الفلسطينية التي لا نأتي بجديد حين نذكّر بأنها قضيتنا الوطنية والقومية والإنسانية، وهي التي تمرّ بمنعرج غير مسبوق عبرت عنه الصفقة الأمريكية/الصهيونية المسمومة التي لم ينخرط فيها الأمريكان والصهاينة فقط، بل انخرط فيها أكبر عرابيها من أنظمة العمالة العربية التي تقوم بمجهودات محمومة لا لتمويل القسم الاقتصادي من الصفقة فحسب، بل خاصة لتمرير التطبيع مع الكيان الغاصب حتى يسهل تطبيق بنود الصفقة التي سيكون ثمنها الحفاظ على عروش هؤلاء الطغاة. في هذا الإطار فإن كل سلوك تطبيعي مهما كان مستواه وصيغته ومجاله فإنه يفتح الباب أمام الصهاينة كي يكونوا “أمة بين الأمم” كما يقال، وهذا أمر خطير وعواقبه لن تكون إلا على حساب قضايانا وفي مقدمتها قضية فلسطين.
علاقة الرياضة بالتطبيع
كتب العديد من النشطاء أن الرياضة ليست لها علاقة بالسياسة وبالتالي لا يجوز منطقيا الربط بين الأنشطة الرياضية وخاصة الدولية منها بالموقف السياسي من هذه القضية أو تلك. وفي هذا مغالطة كبرى مثل مغالطة بعض فناني البلاط بمحاولة الإيهام ب “نظرية الفن للفن” أي حياده واستقلاليته المطلقة عن كل ما سواه. إن الرياضة في معانيها الاولمبية الصميمة والأصيلة هي مجال لتكريس القيم والمبادئ الإنسانية التي تعزز الصداقة والمحبة والسلام بين المجموعات المختلفة. هكذا ولدت الرياضات الجماعية والفردية في قرية “اولمبيا” الإغريقية على هامش الحروب والاقتتالات العنيفة بين أثينا واسبرطة والتي لم تعزز إلا العداوات. وقد لعبت الرياضة دورا مهما في تعزيز العلاقات بين القرى والمدن والشعوب والأمم، ولئن دمرت الرأسمالية هذا النشاط بتبضيعه وسلعنته وربطه بقوانين السوق، فإن جوهر الممارسة الرياضية عند المؤمنين حقيقة بالقيم الإنسانية يبقى خدمة الأهداف النبيلة والراقية. وضمن هذا الإطار عبّر الرياضيون والرياضيات في أكثر من مناسبة عن مواقف مشرفة تنحاز للسلام والعدالة والحرية وترفض الاستعمار والإرهاب. وقد صفق الشرفاء كثيرا للاعبي كرة قدم أو سلة أو يد أو رياضات فردية لبسوا قمصانا تنحاز للشعوب ولفلسطين تحديدا. كما قام لاعبون وفرق بكامل طاقمها بمقاطعة مقابلات رياضية مهمة وحاسمة في مسيراتهم لأن الفريق المقابل هو “الفريق الصهيوني”. وقد مارست أنس جابر ذاتها هذا الموقف الذي لقي كل التعاطف من شعبنا وأنصار الحرية في العالم، كما ماتزال الذاكرة تحتفظ بالمواقف الرائعة التي عبر عنها رياضيون تونسيون من مختلف الاختصاصات مثل عزة بسباس ومالك الجزيري ومحمد حميدة ومجدي تراوي ومحمد علي الشريف… لقد حازت هذه المواقف التقدير ولم يقل أحد إنها “مواقف سياسية” بقصد تبخيسها إلا أنصار التطبيع الذين يعون أكثر من غيرهم (وللأسف) ما يصنعون وما يهدفون إليه.
إن هذه المواقف المشرفة ليست حكرا على رياضيين تونسيين وعرب. بل هي مواقف كل الشرفاء في العالم وفي التاريخ. وعلى سبيل الذكر مقاطعة الرياضيين والفنانين والمثقفين والمبدعين والنشطاء لنظام الميز العنصري لجنوب افريقيا على كل المستويات. وقد لعبت هذه المقاطعة دورا محوريا في إسقاط نظام “الابرتايد” وكانت سندا مهما لنضال شعب جنوب إفريقيا وقواه التحررية. كما يقوم اليوم أكاديميون ومثقفون ونشطاء بمقاطعة الكيان الصهيوني على مختلف الواجهات لفضحه والتشهير به وإحداث الفراغ من حوله بحكم الجرائم التي يقوم بها ضد شعب فلسطين.
إن الرياضي ليس مطالبا ضرورة بأن تكون له مواقف من كل القضايا السياسية، ففي النهاية هو مواطن يتمتع بكل حقوق المواطنة التي توفر له الحرية للإدلاء أو عدم الإدلاء بمواقفه. لكن الرياضي ليس من حقه، مثله مثل أي ناشط في أي قطاع، أن يستبله الناس ويغالطهم، وفي حالتنا أن يعتدي على مشاعرهم الوطنية بأن ينزع نحو تبرير ممارسة سياسية بامتياز هي ممارسة التطبيع مع العدو، حصانته في ذلك الخلط الحاصل في أذهان البعض بين إجراء مقابلة رياضية، وبين سياقاتها وأهدافها ونتائجها التي ليس أقلها “تشريع” وجود الفرق الصهيونية التي دخلت أكثر من مرة بلادنا وخاصة في مجال الرياضات الفردية تحت مسمى “حياد الرياضة عن السياسة”.
دلالة التطبيع
ينزع البعض بقصد ومن دونه إلى حصر التطبيع في إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين دولة ما ودولة العصابات الصهيونية. إن هذا ليس سوى مظهر من مظاهر التطبيع وهو التطبيع الرسمي. لكن التطبيع له مستويات عديدة منها غير الرسمية وهي الشائعة أكثر في منطقتنا العربية. إنها العلاقات المعلنة والخفية (في الغالب) التي تقيمها هيئات غير رسمية مثل الجمعيات والمنظمات المدنية والحقوقية والاجتماعية والعلمية والرياضية..، وهذا التطبيع يمكن أن يكون في إطار علاقة ثنائية أو في إطار أوسع يمكن أن يكون إطارا إقليميا أو دوليا. والتطبيع ليس ضرورة هو زيارات للكيان المحتل كما قامت بذلك عديد وكالات الأسفار في بلادنا التي تسوق لذلك باعتماد مغالطات مثل “الذهاب للصلاة في بيت المقدس” أو للتواصل “مع اليهود من أصل تونسي” كما قال لنا بعض “الفنانين” الذين ذهبوا في زيارات للغناء للصهاينة مقابل مبالغ مالية مهمة. إن هذه الأمثلة تمثل نماذج من أشكال التطبيع ومستوياته، وما التطبيع الرياضي إلا عينة من ذلك، علما وأن مشاركة أنس جابر في دورة رياضية يشارك فيها صهاينة، وتحديدا تقابلها مع منافسة صهيونية تمّ في إطار رسمي. فجامعة التنس هي إطار رسمي تابع لوزارة الشباب والرياضة مثلها مثل جامعة كرة القدم وكرة اليد…، علما وأن اللجنة الاولمبية التونسية المجتمعة في مقر رئاسة الحكومة أصدرت اليوم بيانا دافعت فيه عن كل مشاركة في أي نشاط رياضي مهما كانت البلدان المشاركة فيه ولسنا أغبياء حتى لا ننتبه إلى المقصود بذلك وهو الفرق الرياضية الصهيونية لا غير، وهذا لا يعتبر عند اللجنة الاولمبية “الوطنية جدا” تطبيعا طالما أن الأصل هو “عدم تسييس الرياضة”.
إن ما أتته أنس جابر ليس له من اسم غير التطبيع، واختيار مصالحها الأنانية الضيقة وطموحها الفردي. لقد وضعها التاريخ أمام فرصة كي تعبّر عن موقف مشرف كان سيزيد من إعجابنا بها وإسنادنا لها مثلما فعل كل التونسيين سابقا. لقد كنا سنحملها على الأعناق وسنعتز بما فعلت. أما وقد اختارت التنافس مع صهيونية تقطر يدها بدم أطفال فلسطين، فإن موقفها مدان في كل الحالات. بل وموجب للمساءلة. لكن قوانين تونس مازالت لم تجرم التطبيع مع العدو الصهيوني، وهو فراغ قانوني مقصود يتحمل مسؤوليته ائتلاف الحكم المتكون من حزبي النهضة والنداء (وتفرعاته) والذي رفض حتى مجرد عرض مشروع القانون الذي تقدمت به “كتلة الجبهة الشعبية” في الدورة البرلمانية الفارطة، والذي لاقى إسنادا غير مسبوق من قبل فعاليات سياسية ومدنية ونقابية.
حول قانون تجريم التطبيع
يعتبر إصدار هذا القانون مطلبا حيويا وأساسيا. فشعبنا الذي رفع أثناء الثورة شعارا مدويا “الشعب يريد تحرير فلسطين” يعي ما يقول وما يقصد. فمناهضة الامبريالية والصهيونية هي من طبيعة الثورة التي أرادها الشعب، فالثورة الاجتماعية والديمقراطية لا معنى لها دون بعد وطني يتجلى في سيادة الشعب على بلاده وثرواته وقراره. وهذا لا معنى له دون مناهضة الغطرسة والاحتلال والاستعمار، ليس في بلادنا ومنطقتنا فحسب. بل في كل العالم. ولسنا في حاجة إلى التذكير بما تعنيه قضية فلسطين، لا بالنسبة إلينا كجزء من العملية التحررية المطروحة في وطننا العربي. بل بالنسبة إلى كل قوى الحرية والعدالة في العالم.
لقد طرحنا بمناسبة صياغة الدستور الجديد ضرورة التنصيص على تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني، إلاّ أن ممثلي حركة النهضة والأحزاب الليبرالية رفضوا ذلك بدعوى أن الدستور لا ينصص على المسائل الجزئية والعارضة وأن ذلك موقعه القانون. وفرضت الأغلبية في المجلس التأسيسي منطقها الذي يؤكد طبيعتها كقوى مرتبطة بالقوى الكبرى في العالم. ولعلّ الجميع يتذكر ما لعبه سفراء الدول الامبريالية من ضغط مباشر في هذه المسألة بالذات، فضلا عن الزيارات المكوكية لغلاة أنصار الصهيونية لبلادنا ومقابلاتهم خاصة مع قيادة حركة النهضة (جون ماكاين، مادلين اولبرايت…) التي استماتت في رفض التنصيص على معاداة الصهيونية في الدستور وتجريم أي تطبيع أو تعامل معها، وذات الأمر مع مشروع القانون الذي ظل مخفيا في أدراج المجلس.
وحين فاز قيس سعيد برئاسة البلاد، استبشر البعض لأن معاداة الصهيونية ستجد طريقها للتقنين. لكن الوضع لم يتغير بل إن نسق التطبيع تضاعف. فهذا وزير السياحة يدعو إلى تمكين الصهاينة من أصل تونسي من الجنسية التونسية،. ويمرّ الأمر كأنه تصريح لمسؤول في غير بلادنا. في حين أن هذا الوزير يدعو إلى تمكين أشخاص هم كلهم أعضاء في جيش الاحتياط للكيان الصهيوني (وبعضهم جنود وضباط مباشرون). هؤلاء الأشخاص هم “مواطنو دولة أخرى” بالتوصيف القانوني. ويمرّ الأمر دون حتى مجرد المساءلة لا في مجلس النواب ولا في الحكومة. ولا يتدخل الرئيس الذي يختص في صلاحياته الدستورية بكل ما يهم السياسة الخارجية للدولة. هذا الرئيس الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس” بمغالطاته واستغبائه الفجّ للناس. فحين سئل عن موقفه من تجريم التطبيع اعتبر ذلك من قبل “جريمة الخيانة العظمى” التي تنصّ عليها المجلة الجزائية التونسية. إن المغالطة تكمن في الهروب من التدقيق القانوني لجريمة التطبيع مع الكيان الصهيوني غير المنصوص عليها في قوانيننا. أما الخيانة العظمى كما هي مبينة في القانون الجزائي فهي لا تشمل ضرورة التطبيع الثقافي أو السياحي أو العلمي أو الرياضي أو المدني أو السياسي مع الكيان الصهيوني ومنظماته وجمعياته المباشرة أو التي يصنعها ويدعمها ويمولها بصفة غير مباشرة خاصة في البلدان الغربية. فمثلا لا أحد بإمكانه اليوم تقديم قضية بتهمة الخيانة العظمى ضد أنس جابر أو محسن الشريف أو رنيه الطرابلسي أو بجمعية الجغرافيين التونسيين أو بوكالة الأسفار التي نظمت رحلات للكيان المحتل. إن تهمة الخيانة العظمى يمكن أن تطال من تورط في أنشطة أمنية أو عسكرية أو استخباراتية، لكنها لا تشمل من تورط في أنشطة أخرى كالتي ذكرناها. ومشروع القانون الذي تقدمت به الجبهة الشعبية هو لسدّ هذا الفراغ بالذات. لذلك فإن هروب رئيس الدولة وامتطاء الجمل الرنانة هو هروب من اتخاذ موقف سياسي واضح ودقيق. بل إننا لا نجانب الصواب حين نقول إن أضرار الموقف الرئاسي بينة وجلية ولا أدل على ذلك من تصاعد مظاهر التطبيع خاصة في هذا الوضع الدقيق الذي يمر به الشعب الفلسطيني وقضيته. الوضع الذي يتطلب الفطنة وغلق الباب أمام التمدّد الصهيوني المتنامي والمموّل والمدعوم من قبل رؤوس الرجعية والعمالة مثل المقبور قابوس أحد رموز التطبيع والخيانة، والذي لم يتورع قيس سعيد أن تكون زيارته الأولى للخارج للتعزية بمناسبة وفاته وفي ذلك أكثر من رسالة.
لنتحمل مسؤوليتنا ولا نكتفي بالإدانة
إن سرطان التطبيع أصبح يتمّ في واضحة النهار وبإدارة رسمية. وما اجتماع اللجنة الاولمبية اليوم في مقر رئاسة الحكومة لاتخاذ مواقف العار التي تبيّض التطبيع وتستهتر بمشاعر الشعب وبمواقفه التاريخية غير القابلة للتشكيك إلا دليلا على ما بلغه المطبعون. إن عملا كبيرا ينتظر القوى الوطنية، وإن حشد الجماهير من أجل فرض سن قانون تجريم التطبيع أصبح مهمة عاجلة لا تنتظر التأجيل. إن مجلس النواب ذي الأغلبية الرجعية والمرتبطة بدوائر القرار الخارجي ستعطل هذا القانون كما ظلت تعطله منذ 2012. إلا أن ضغطا جماهيريا عارما سيفرض على جوقة الجبناء الإذعان أمام إرادة الأحرار، كما أن التشهير بالمطبعين ومقاطعتهم من رياضيين وفنانين ووزراء ومسؤولين ونشطاء وجمعيات ومنظمات ووكالات أسفار وسياحة هو مهمة نضالية وجب تنظيمها دون شعبوية كي نضعهم في الزاوية ونتصدى لنواياهم الخبيثة.
إن شعب تونس الحرّ تربطه وشائج عميقة مع شعب فلسطين وقضية فلسطين وتطلعات فلسطين. فليسقط التطبيع مع العدو الصهيوني، وليسقط المطبعون.