الطفرة النقدية بالمغرب وواقع التردي السياسي. إلى أي حدّ تمثّل العالم العربي هذه الطفرة؟
الطفرة النقدية بالمغرب وواقع التردي السياسي. إلى أي حدّ تمثّل العالم العربي هذه الطفرة؟
● ازرار محمد: باحث مغربي
طالما كان العالم العربي بعامّة يعيش أداء مباينا على مستوى النّقد والأدب، ومردّ ذلك إلى سيرورة الأوضاع السيّاسيّة والثقافيّة الموازية لهما، وطالما كان الأدب والنّقد المغربيّان خاضعان لقاعدة التحوّل التي تطرأ على البنيات الاجتماعيّة، والتعبير عن التحوّلات والمستجدّات والصّراعات التي عرفتها حركيّة الواقع، مما أفرز نتاجا إبداعيّا متباينا، ذلك نظرا للوشيجة والمطابقة التي تربط بين المغرب بعده جزءا والعالم العربي بعده كلاّ، سواء على مستوى المناخ الفكري أو البيئة السياسية والثقافية، لكن ما يعيشه النقد الجديد بالمغرب آنيا يضع أمامنا هاجسا ديالكتيكيّا يدعو بشيء من الجموح إلى محاولة فهم ما يجري، وغني عن البيان أن النقد المغربيّ الجديد يعرف توهّجا وصحوة استثنائيّة، كونه قد تبوأ موقع الريّادة بين نظائره في الأقطار العربيّة في ظلّ فتور سياسيّ واضح للعيّان، في مقابل ضمور نقود كانت النموذج إلى وقت قريب (مصر مثلا)، وفي ذلك مدعاة للتساؤل وبقوّة، كيف تبوّأ النّقد المعاصر بالمغرب هذه المرتبة بالموازاة مع التردّي السيّاسي فيه؟ وما أبرز العوامل المساهمة في ذلك؟ أخارجيّة أم داخليّة أم هما معا؟ وهل فطن العالم العربي واستساغ بدقة هذا التحول النقدي الراهن بالمغرب؟ أم التقطه على شكل علم الجمال (تودوروف) ينعم به كما ننعم بالله دون محاكاة وتمحيص وتمثل؟ أيمكن القول أن الناقد المغربي وصل إلى منزلة الهجاء الفكري في غنى عن الرمزية والتمثل حد التقديس للنّموذج الغربي؟ أم أنه مجرد تصوّف يكون فيه الناقد المغربي متصوّفا أيضا يستبدل الأرض بالسماء؟.
إن النّقد المغربي في سيرورته ينقسم لطبقات بلغة الأركيولوجيا والجيولوجيا، بدءا بطبقة الجمود مرورا بطبقة التأصيل والتأسيس وصولا لطبقة التجديد، وفي خضم هذا التحول تعالقت مجموعة من المبررات لتنصّب النّقد الجديد بالمغرب على عرش الريّادة، ووجب الإشارة هنا إلى تهافت مسوغين اثنين.
أولا: كون النقد المغربي الجديد أضحى صناجة القطرية العربية في الوقت الرّاهن، ولنا في هذا الصدد ما يبرر ذلك.
ثانيا: التردي السياسي وله ما يبرره أيضا بالنظر للأحداث المتوالية والتصدع الذي لحق الشأن السياسي بالمغرب، من قبيل ما عرف “بالزلزال السياسي” وما حمله بين طياته من إعفاءات طالت شخصيات وازنة في المشتل السيّاسي بالمغرب، وقبله الفراغ الحكومي وتراجع دور الأحزاب.
إذا كان كل تطوّر نقدي رهينا بتطور الشأن السياسي والثقافي، وإذا كان كلّ إنتاج – أدبا كان أم نقدا – لا يتأسّس إلاّ في حضن سياق مخصوص، ووفق أهداف معلنة أو غير معلنة، فإننا سنتعامل مع هذه الاشكالية وفقا لهذا المنظور، ذلك أنّ السياق الذي تنبجس فيه الطفرة النقديّة الجديدة بالمغرب لا يزيغ عن منحى السجال الثقافي في ضوء وجهات نظر متعددة، مع احترام الحاسة النقدية للعموم المنتصبة على كور الرأي العام وحريّة التعبير، ومن الأجدر أن ننبّه إلى أنّنا لسنا بصدد سرد للتحولات التي خضع لها النقد بالمغرب بقدر ما نحن بصدد تقديم تفسير وتصوّر لقفزته النوعية الرّاهنة، وكما أنّ لكلّ نتيجة سبب، فالانتعاشة التي يشهدها النّقد الجديد بالمغرب كان من ورائها تظافر ثلّة من المسبّبات تتأرجح بين الداخليّة والخارجيّة، وبين السّلب والإيجاب، من بينها هيمنة الكتابي على الشفهي، وتداخل المعارف وانتقالها، وضغط البصري ووسائل “الميديا” المناصرة للخطاب الرسمي، مما ضيق دائرة المثقف (سارتر) وجعله يعيش وضعا أشبه بذلك الذي عاشه المفكّرون أثناء العصر القروسطي الواطئ (فوكو) وإن لم يكن بالحدّة ذاتها، حتّى أضحى كل خطاب أو كل تفكير مضادّ للخطاب والتفكير الرسميّين خاطئا ولا معنى له (روجيه بيكون)، ممّا أفضى بالنّاقد المغربي إلى التّموقع تحت لواء المعارضة على غرار الثقافة المغربية على مرّ التاريخ، فسار ينهج سبيل الفردانية والتطوع النقدي، والتنصّل من يافطة الدّولة وأجهزتها، فكان من الطبيعي أن يبحث الناقد المغربي المعاصر عن باحة من الحريّة والاستقلاليّة من أجل ممارسة نقد خلاّق يسمه طابع السؤال الخاص، ولمّا نتحدّث عن الحرية فنحن إزاء محاكاة الحق، فهي لا تعطى و إنّما تنتزع شأنها شأن الحقّ، وكذا انحيّاز المثقفين إلى “اليسار” وخطابه الذي يستتبع آمال مستقبلية كانت تعاني الاستبداد السيّاسي في زمن مضى، لكن تغيّر الوضع في الوقت الرّاهن أتاح لتلك الآمال أفقا تقدّميا انخرط فيه معظم النقاد المغاربة، وأصبح ينظر للنّاقد المغربي الجديد في صورة المثقف العضوي (غرامشي)، بكونه صار يواجه الأفكار العقائدية التقليديّة والأحكام الجاهزة والخطابات الرّمزية – لا أن ينتج تلك الخطابات و الأفكار ويمارس تلك العقائد – ويواجهها بأسئلة مربكة ومعقّدة، فعلّة وجوده كامنة في تمثيل تلك القضايا التي تمّ إهمالها بشكل متكرّر، أو أنّها كنست و خبّئت تحت البساط، ومن ثمّة إثبات الانتهاكات المعتمدة وغير المعتمدة ومحاربتها بشجاعة، لكن هذا لا ينفي طبعا وجود استرزاق في النّقد الجديد بالمغرب، كذاك الذي تصوّرة شخصية “سامي” الشخصية الرئيسة في رواية “أصابعنا التي تحترق” لسهيل إدريس إثر جوابها على سؤال شخصيّة “كريم” حول وضعية المثقف، والذي مفاده “أن يكون الناقد في علاقة هدنة جزئية أو مؤقته مع الدّولة، وألاّ تتعدّى إطلاقا منبر النّقد تحت راية العقل والعاطفة وحق التعبير”، ومهما يكن من أمر فإنّ ما نطمئنّ إليه هنا هو أنّه لا يمكن الجمع بين امتيازات الحكم وشرف المعارضة، ومما لا مندوحة عنه أيضا أن الوفرة الإيديولوجية التي تؤثث الفضاء الثقافي المغربي وكون النّقاد المغاربة قطعوا حبل السرّة مع الماضي واتجهوا صوب الفكر التّنويري والمناهج الغربيّة التي تمثّلوها بدقة، ساهم بقسط ليس باليسير في صدارة النّقد المغربي الحديث لباقي النّقود العربيّة، ولعلّ ما يبرّر ذلك هو الانتاج النقدي الغزير المتمثّل للنموذج الغربي، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، “ادريس بلمليح” في البنيويّة التكوينية، و”رشيد بنحدّو” في نظرية التلقّي، و”عبد السلام بنعبد العالي” في التّرجمة، و”حسن المؤدّن” في المنهج النّفسي، وأخرون كثر، لكن ما الذّي جعل النّقد العربي عامة يتراجع أمام النّقد المغربي الذي يعرف صحوة استثنائية؟ ألم تكن البقاع العربية الأخرى سبّاقة للفكر الغربي؟ إذا ما سبب هذا التراجع؟
إن الإجابة هنا لن تكون عرضية بالبث والمطلق، لأنّ الوسيلة الوحيدة لإعطاء حكم صحيح هو اعتراف من يعنيه الأمر، وما قام به صاحب كتاب “مدخل إلى التنوير الأوروبّي” السّوري “هاشم صالح” يدخل في هذا الإطار، حيث سلّم بأنّ المشارقة تلقوا النقد الغربي تلقّيا سطحيا ينأى عن الفهم العميق واستكناه المساءلة، وأنّ تجديد المنجز النقدي في الوطن العربي لن يتحقق إلا بعد حل علاقة اللاّهوت السياسي وتنظيم المجتمع، من أجل تفجير المكبوت الذي يحاكي الصراعات القومية.
إنّ هالة الصراع الأيديولوجي السائد منذ العقد السّبعيني وتحوّل النقد من نقد النّصوص إلى نقد النّفوس، وامتزاج الأحكام النّقدية الأدبيّة بالقناعات السيّاسية المستمدّة من الواقع أهمّ ما ميّز النّقد الطلائعي المغربي، شكّلت أساسا للتوجّه نحو نقد خارجي للنّموذج الغربي، ولنا في كتاب “إدانة الأدب” لصاحبه “عبد الرّحيم جيران” خير دليل على شقّ عصا القالب الغربي، وخير مثيل لتمفصل النّاقد النّاحت والمطوّع للمصطلحات ودقّة تنظيرها، ونموذج للسّؤال الخاصّ في خلخلة المسلّمات، مثلما خلخل “جيران” أطروحة “تودوروف” المتعلّقة بالأخطار المحدقة بالأدب في كتاب الأخير “الأدب مهدّد” أو “الأدب في خطر”، غاية في فضّ أيّة وصاية قد تطبق على المجتمع والعقل والجسد، وفي ذلك إيماءات قوية على نضج المنجز النقدي الجديد بالمغرب، ولكن إلى أيّ حدّ استوعب العالم العربي هذا النّضج؟
لا نغالي إذا قلنا إنّ النّقد الجديد بالمغرب بخصائصه المنهجيّة والمعرفيّة يحظى بمقام خاص في العالم العربي خاصّة مصر وتونس والإمارات والسعودية، ولا يتوانى المهتمّون في الإشادة به في الملتقيات والنّدوات كواقع فرض نفسه في مختلف البقاع العربية، ومن المعطيات التي تزكي هذا القول نذكر الأعمال النقدية المغربية الأخيرة التي ملأت سماء التقد والابداع، كتلك الحائزة على جائزة “كتارا” للإبداع خاصّة في النقد الروائي، ومن باب الذّكر نجد “نحو الوعي بتحولات السّرد الرّوائي العربي” لزهور كورّام، و”الرواية العربية: من الرواية العائليّة إلى محكي الانتساب العائلي.. قراءة تحليليّة نفسية” لحسن المودّن، و”دراسة صورة الشخصية الرّئيسة في الرّواية العربيّة” لإبراهيم الحجري، وغيرها من الأعمال، علاوة على انكباب دور النّشر العربيّة على وجه العموم والمشرقيّة بالتّخصيص على النقّاد المغاربة رابطة معهم عقودا للنّشر، وذلك يعزى للجدّة والدقة اللتان تميّز بهما النّقد المغربي الذي يتجه نحو تأسيس رؤية شموليّة، وإن كان من تفسير لهذه المعطيات فلا يخرج عن دائرة الاعتراف بكون النّقد الجديد بالمغرب قد تزّعم النقود العربيّة محقّقا توهجا قلّ نظيره، لكن هذا التوهّج الذي وصل إليه النقد الجديد بالمغرب لا يمكن عدّه وصولا للقمّة لأنّ ذلك سيحشره في ركن الهدف المحدود وكفى، وأيضا لا ندّعي كماله بقدر ما ندّعي نسبيّة تجديده نظرا لدياكرونيتة وسيرورته، وفقا لمقولة “الكائن الذي لا يشهد أي تحوّل يصير إلى زوال” (غوته)، وسنظلّ في انتظار “غودو” الاكتمال.